تلفزيون نابلس
المسحراتي: صوت الفجر وحنين الطفولة.. بقلم الكاتبة: عزة جبر
3/3/2025 11:25:00 PM

لم تكن هناك هواتف ذكية تضبط لنا مواعيد الاستيقاظ، لم يكن هناك منبّه إلكتروني يوقظ النائمين بلطف، بل كان هناك رجلٌ واحد، يطوف الشوارع بصوته الجهوري وطبلته التي تهز سكون الليل، ينادي بعباراته التي لا يخطئها أحد:

“يا نايم وحد الدايم!”

في ليالي رمضان الهادئة، حين كان الليل يلفّ المدينة بثوبه المخملي، كان هذا النداء يكسر الصمت، ينساب بين الأزقة، يصعد إلى الشرفات، ويطرق النوافذ برفقٍ أو عنفٍ، بحسب المسافة التي يفصلها عن البيت.

كنت أرتجف كلما سمعت صوته، كان الطبل عاليًا، كأنه يكسر حدود الأمان في غرفتي الصغيرة. كنت أركض إلى حضن والدي، أختبئ فيه كملاذٍ من هذا الغريب الذي ينادي بأعلى صوته وسط السكون. يضحك والدي بحنانٍ ويقول لي:

“هذا جزء من رمضان، لا تخافي.”

لكني كنت أصرّ على أن صوته يفزعني، أجيب بسرعة، وكأنني أحاول الهروب حتى بالكلمات. كان أبي عمليًا في تعامله مع مخاوفي، لا يهوّن الأمر بالكلام فقط، بل كان دائمًا يجد حلاً، يصنع لي تجربةً تغيّر نظرتي للأشياء.

تلك الليلة، صعدنا إلى سطح المنزل، فرشنا الحصير تحت السماء المفتوحة، حيث النجوم تتلألأ كحبات الكنافة المغموسة بالقطر. قال لي:

“لن ننام الليلة، سننتظر المسحراتي معًا، وسنفاجئه قبل أن يفاجئك.”

كان الأمر أشبه بمغامرةٍ صغيرة، قلبي الصغير يخفق بترقب. عندما اقترب صوت الطبل، حاولت تقليد نداءه بصوتٍ خافت، كأنني أريد أن أسبق خوفه، لكنه لم يتوقف. ضحك أبي وقال لي:

“انظري، لقد خاف وهرب!”

صدقته، شعرت بالنصر، ومنذ تلك الليلة، لم يعد المسحراتي كابوسًا يقطع نومي، بل صار موسيقى رمضان التي أنتظرها كل عام.

لكن الزمن تغيّر، وصوت المسحراتي بات يتلاشى، كما تلاشت كثير من الأشياء التي كانت تصنع رمضاننا القديم. لم يعد يطوف الحارات كما كان، لم تعد الأبواب تُفتح له بالشكر والدعاء، ولم تعد الأصوات الصغيرة تهرع إلى النوافذ لترى صاحب الطبل.

لكن في داخلي، لا يزال ذلك الصوت حيًا، لا تزال طبلته تدقّ في ذاكرتي، توقظني لا للسحور، بل لكل ما كان جميلاً في زمنٍ مضى.

 


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة