تلفزيون نابلس
رمضان زمان ... بقلم الكاتبة: عزة جبر
3/1/2025 11:05:00 PM

حين كنا أطفالًا، كان لرمضان طعمٌ آخر، نكهةٌ من السحر والبراءة، ورائحةٌ تعبق بالدفء في كل زقاق. كان يأتي في الصيف، يحمل معه طقوسًا مختلفة، ما قبل الإفطار وما بعده، كأنه عالمٌ منفصلٌ عن الزمن.

لم يكن هناك دوامٌ مدرسيٌّ يعكّر صفو أيامنا، فكنا ننام طويلًا، متحججين بالعطش والجوع، نغفو ونستيقظ على أصوات الأذان والضجيج الخفيف في الحارات. نلعب قليلًا، نراقب عقارب الساعة بتلهف، ننتظر تلك اللحظة السحرية حيث يعلن المغرب نهاية الصيام وبداية الولائم الصغيرة التي كنا نصنعها لأنفسنا من حبات التمر ورشفات العصير.

كنا ملوك الشوارع، صغارًا لا نهاب شيئًا، نركض، نقفز، نلهو، وكأن الكون كله مسخرٌ لنا. لم تكن الألعاب النارية متاحة، فاخترعناها بطريقتنا الخاصة؛ كنا نحرق أطراف سلك الجلي الخشنة، نلوّح بها في الهواء، فتتناثر الشرارات كنجومٍ تتراقص في الليل. لم نكن نخشى شيئًا، كانت طفولتنا محصنةً بالبراءة والدهشة.

أما التلفاز، فقد كان جزءًا مقدسًا من طقوسنا الرمضانية، لم يكن هناك خياراتٌ أخرى، لم يكن هناك مئات القنوات والمنصات، كنا نتابع كل ما يُعرض بلا انتقاء، نستمتع بالفوازير مع شريهان، نضحك مع فطوطة، نتحمس مع برامج المسابقات، ونتابع المسلسلات التاريخية والكوميدية، كنا نشاهد جميع البرامج نفسها، نتحدث عنها في اليوم التالي وكأنها حدثٌ شخصيٌّ يجمعنا جميعًا.

وعندما كان رمضان يأتي في أيام الدراسة، كان له طابعٌ آخر، كنا نطرح السؤال ذاته كل صباح:

صايم؟

طلع لسانك!”

ضحكاتٌ وضوءُ الشمس المتسلل عبر النوافذ، نتكئ على المقاعد متعبين، نحلم بموائد الإفطار، ونعد الدقائق للعودة إلى المنزل، حيث التلفاز ببرامجه الممتدة حتى منتصف الليل، كان البقاء مستيقظين حتى وقتٍ متأخر مكافأةً لا تتكرر إلا في رمضان.

أما السحور، فكان حكايةً أخرى، فرصةً للتحجج بالسهر، خاصةً في ليالي العطل المدرسية، حيث لا أحد يجبرنا على النوم مبكرًا. في الشتاء، كنا نضع أرغفة الخبز على المدفئة طوال الليل، ندّعي أنها “تتحمص” استعدادًا للسحور، لكنها كانت مجرد ذريعةٍ لبقائنا مستيقظين، نجلس حول المدفئة نتبادل الحكايات، ونراقب عقارب الساعة ببطءٍ وهي تقترب من الفجر.

لكن رمضان لم يكن دائمًا شهر الطفولة الهانئة فقط، ففي أحد الأعوام، كنت أنا وأبي في طريقنا إلى نابلس لإحضار جدتي، لم تكن هناك هواتفٌ نقالة، كان التواصل أصعب، والطرقات تمتد بلا أخبارٍ سريعة. فجأة، عرف أبي بطريقةٍ ما أن هناك مجزرةً قد وقعت في المسجد الإبراهيمي بالخليل. لم أفهم يومها لماذا أغلق الاحتلال الطرق المؤدية إلى رام الله، رغم أن القاتل كان مستوطنًا متطرفًا، لكننا تعلمنا مبكرًا أن الاحتلال يعاقبنا حتى على أفعاله. بقينا واقفين طويلًا على الحاجز، طالت الطريق، وكنا صائمين، لكنني لم أشعر بالملل، فقد اعتاد أبي أن يضع لي كتبًا في السيارة دائمًا. وعندما أذّن المغرب، فتح أحد سائقي الشاحنات صندوقه المليء بالخضار، وبدأ بتوزيعها على الصائمين المحتجزين على الحاجز، كان الأمر أشبه بوليمةٍ صامتة، تروي عطش الانتظار والصبر.

وفي حرب الخليج، كان لرمضان طعمٌ مختلف، كان طعم الوحدة والتضامن، حيث اختفت الحياة خلف حظر التجول، لكن أبواب الجيران لم تُغلق. كانت نساء الحي يبدعن في صناعة الحلويات والمقبلات، يرسلنها في ذات الصحن، الذي كان يدور على جميع البيوت، يعود إلينا ممتلئًا بنكهاتٍ مختلفة في كل مرة، كأنما كل بيتٍ يترك فيه جزءًا من روحه.

كانت تلك الأيام تشبه الأحلام، معلقةً في ذاكرةٍ لا تبلى، تحمل دفء الألفة، صوت المآذن، رائحة الخبز الساخن، وحكاياتٍ لا تزال تعيش فينا رغم تبدّل الزمان.

 


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة